فصل: تفسير الآيات (38- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (24- 30):

{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة كانت عرضا لعناد المشركين وضلالهم البعيد، المغرق في السفه والضلال، حتى مع هذه الأقسام التي أقسم اللّه بها سبحانه وتعالى، في سوق الأخبار إليهم.. فكانت الآية وما بعدها من آيات، نذيرا من النذر التي تحمل إلى هؤلاء المشركين المعاندين تهديدا بأن يلقوا مصيرا كمصير المعاندين الضالين، وهم قوم لوط.
وفى قوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} انتقال بالنبيّ من هذا الجو الخالق الذي يعيش فيه مع قومه، وما يفوح منهم من ريح خبيثة، محملة بإفرازات كفرهم وضلالهم.. ففى الاستفهام دعوة للنبىّ الكريم من ربه، إلى أن يخرج من هذا الجوّ الفاسد، وأن يملأ صدره بشذا هذه الريح الطيبة التي تهب عليه من ذكرى نبىّ كريم، هو إبراهيم عليه السلام، وما كان له عند اللّه من فضل وإحسان.
وفى مجيء هذا الحديث منقطعا عما قبله، غير معطوف عليه- عزل تام له عن الحديث السابق، حتى لا يدخل عليه شيء منه، وحتى لا يطلّ عليه وجه من تلك الوجوه المنكرة، التي كان يراها النبي الكريم من قومه.
والضيف، بمعنى الضيوف، فهو يطلق على الفرد والجمع.. ومثل هذا قوله تعالى على لسان لوط مخاطبا قومه: {إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ} [68: الحجر] فهو يشير إليه إشارة الجمع {هؤلاء} كما وصفوا هنا بصفة الجمع {المكرمين} قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
{إذ} ظرف مقيّد لهذا الحديث، أو الخبر، الذي كان من الملائكة مع إبراهيم.. فالمراد بالخبر الذي يورده اللّه سبحانه وتعالى على النبي فيما كان بين الملائكة وبين إبراهيم- هو هذا الخبر الذي كان في هذا الوقت الذي دخلوا عليه فيه.
وقوله تعالى: {فَقالُوا سَلاماً} أي قالوا لإبراهيم هذه الكلمة، يجيبونه بها، ويبعثون إليه منها أمنا وسلاما، ويؤذنونه بأنهم لا يريدون به سوءا، بعد أن وقع في نفسه ما وقع، من دخولهم عليه هذا الدخول المفاجئ- من مشاعر الريبة، والخوف، وتوقع الأذى! كما يشير إلى ذلك ما جاء في قوله تعالى على لسان إبراهيم في آية أخرى: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [52: الحجر].
وقوله تعالى: {قالَ سَلامٌ} هو رد إبراهيم على ضيفه، وهو رد مقتضب موجز، في مقابل تحيتهم الموجزة الخاطفة.. وهو بدل على ما وقع في نفس إبراهيم من توجس وريبة منهم.
وقوله تعالى: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
هى كلمة قالها إبراهيم بينه وبين نفسه، ترجمة لتوجّسه وخوفه منهم.. فإنه ما كان لنبى اللّه، وقد وصفه اللّه سبحانه وتعالى بالحلم، أن يجبه ضيفه بهذا القول، ويرمى به في وجوههم، ثم يلقاهم بهذا الإكرام والحفاوة، بما يقدم لهم من طعام طيب كريم.
قوله تعالى: {فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}.
راغ لأهله: أي مال إلى أهله، وانسرب إليهم في خفة من غير أن يكاشف ضيفه بما يريد من إكرامهم وإعداد الطعام لهم.. فذلك من شأنه أن يحرج الضيف، ويحمله على أن يطلب إلى مضيفه ألّا يفعل.
قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ}؟- هنا إيجاز حذف دلّ عليه المقام.
أي فقرّبه إليهم، فلم يمدّوا أيديهم إليه، ولم يقبلوا على الأكل منه، كما هو شأن الضيف حين يقدّم إليه.. الطعام فلما رأى ذلك منهم نكرهم، وأوجس منهم خيفة، وقال: {أَلا تَأْكُلُونَ}.
قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}.
وهنا كلام محذوف أيضا.. {قال ألا تأكلون}.
فلم يأكلوا، ولم يستجيبوا لهذه الدعوة المجددة إليهم {فأوجس منهم خيفة} أي فازداد إحساسه بالخوف منهم، وقوى عنده الشعور الذي وقع في نفسه من أول دخولهم عليه، ولقائهم له.
{قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} أي أنهم حين رأوا ما انطبع على وجه إبراهيم من أمارات التوجس والخوف، سكنوا من روعه، وقالوا له: لا تخف، ثم ألقوا إليه بهذه البشرى المسعدة، وهى أن يولد له الولد الذي كان ينتظره منذ شبابه الأول، وها هو ذا وقد بلغ من الكبر عتيّا، وأخلى يديه من هذا الأمل الذي كان يراوده، وخاصة أن امرأته كانت عقيما، ثم اجتمع مع هذا العقم تجاوزها العمر الذي تلد فيه النساء- ها هو ذا يتلقّى هذه البشرى المسعدة.
والغلام الذي بشر به هو إسحق، من زوجه سارة.. {والعليم}، مبالغة من العلم، والعلم كان صفة بارزة من صفات إسحق، كما كان الحلم الصفة البارزة في إسماعيل، كما يقول سبحانه: {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [101: الصافات].
قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}.
الصّرّة: الصيحة، من دهش، أو فزع.
وصكّ الوجه: لطمه تلقائيّا، عند ورود أمر عجيب، غير متوقع.
والمعنى، أن امرأة إبراهيم، حين سمعت بهذا الخبر من ضيقه، وبأنهم يحملون إليه البشرى بولد- أخذتها حال من الدّهش والعجب، فأقبلت إليهم، في ولولة وصياح وانزعاج، وقد ضربت بيديها على وجهها، ثم قالت:
{عجوز عقيم}!! فكيف يكون هذا؟ وكيف تلد العجوز؟ ثم كيف تلد من اجتمع مع شيخوختها العقم؟ إنه هذا لشيء عجيب!!.
قوله تعالى: {قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.
أي أن هذا الذي نقوله ليس من عندنا، وإنما هو ما قاله الحق جلّ وعلا.
وهو {الحكيم} الذي يدبر الأمور بحكمته، فيقع الأمر حيث أراد، ومتى أراد.. كما أراد.
وهو {العليم}، الذي يضبط الأمور بعلمه، وبزنها ويقدّرها بحكمته.
وهذا الموقف الذي كان بين إبراهيم، وضيفه، وامرأته، لم تذكر الآيات الكريمة هنا منه، إلّا الأحداث البارزة فيه، وقد ذكر هذا الموقف في مواضع أخرى من القرآن الكريم، وكل موضع منها يمسك بالموقف كله، كاشفا عن جانب من جوانبه، مسلّطا الضوء على مقطع من مقاطعه.. فإذا نظر الناظر إلى أي موضع جاء فيه ذكر هذا الموقف في القرآن الكريم، وجد بين يديه حدثا كاملا، فإذا ضمّت هذه المواضع بعضها إلى بعض- رأى صورة مكبرة للحدث، تزداد به الصورة وضوحا.. تماما كما تفعل المصوّرة في نقل صور للشيء الواحد من أكثر من جانب، وفى أكثر من وضع..
والشيء هو الشيء، في أية صورة من تلك الصور.

.تفسير الآيات (31- 37):

{قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}.
الخطب: الشأن العظيم، والأمر الخطير ذو البال.
ولقد ذهب عن إبراهيم الرّوع من ضيفه هؤلاء، بعد أن عرف أنهم من ملائكة الرحمن، وسكنت امرأته بعد هذا الهياج الذي استولى عليها من أن يكون لإبراهيم ولد منها بعد هذه الشيخوخة والعقم!.
وهنا يتجه إبراهيم إلى ضيفه من الملائكة يسألهم عما جاء بهم إليه.
إنهم لم يجيئوا على تلك الصورة الغريبة، التي أوقعت الرّعب في قلبه ليبشروه بغلام.. فإن الذي يحمل البشرى إنما يقدّم بين يديه دلائل هذه البشرى وأماراتها، بل إن ريح البشرى نفسها لتسبق الحامل لها، فيجد لها المحمولة إليه، وقعا طيبا في نفسه، وشعورا مسعدا في كيانه، قبل أن تبلغه.. تماما كما وجد يعقوب من ريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير بقميصه.. ومن هنا كان سؤال إبراهيم الملائكة عما وراءهم، من أمر خطير، وماذا يحملون من شئون تتصل به من قريب أو بعيد؟.
وفى نداء إبراهيم لهم باسم المرسلين، لا باسم الملائكة، إشارة إلى أنهم ليسوا مجرد ملائكة عابرين به، بل إنهم محمّلون برسالة من رب العالمين.
فهو يسألهم عن محتوى ما أرسلوا به إليه.
قوله تعالى: {قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}.
أي أننا لم نرسل إليك بما توقّعته من شرّ، وإنما أرسلنا إلى قوم مجرمين.
والقوم المجرمون، هم قوم لوط، كما يفهم ذلك من مواضع أخرى في القرآن الكريم.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}.
هو بيان السبب الذي من أجله أرسل هؤلاء الرسل إلى القوم المجرمين، قوم لوط.. إنهم أرسلوا إليهم ليرسلوا عليهم حجارة من طين، وكأنّ هذه الحجارة هي الرسل التي تنزل عليهم من السماء بالدمار والهلاك، في حين أن هناك رسلا أخرى تنزل على المكرمين من عباد اللّه بالرحمة والإحسان.
وفى وصف الحجارة بأنها من طين- إشارة إلى أن هذا الطين اللّين الرخو، يفعل بقدرة اللّه فعل الحجارة الصلدة، فيهلك، ويدمّر، وكأنه الصواعق المنقضّة من السماء.
وقوله تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ}: أي مقدّرة، ومهيأة عند اللّه ومرصودة لهؤلاء القوم {المسرفين} الذين جاوزوا الحدّ في الضلال، وفى ارتكاب هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ففى كل حجر سمته التي وسم بها، والتي تحدّد له موقعه من القوم، وصرعاه الذين يقع عليهم.
{فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
لم تذكر الآيات هنا ما كان من إبراهيم من مراجعة الملائكة في هذا الأمر الذي جاءوا به، ومن تخوفه على لوط أن يناله سوء مما يحل بهؤلاء القوم الذين سترسل السماء عليهم هذه الحجارة المهلكة، ولوط بينهم- لم تذكر الآيات هذا، لأنه قد ذكر في مواضع أخرى، كما في قوله تعالى على لسان إبراهيم: {قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً} وقد أجابه الملائكة بقولهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} [33: العنكبوت].
وهذا القول هو من اللّه سبحانه وتعالى، وهو إخبار بما انتهى إليه أمر هؤلاء القوم المسرفين، وما كان من نجاة لوط ومن آمن معه.
والضمير {فيها} للقرية، قرية لوط وقومه.. ولم تذكر هنا، لأنها معروفة بما ذكر عنها في مواضع أخرى من القرآن الكريم، ثم لأنها معروفة ضمنا في هذا الحديث، إذ من المعروف أن القوم يسكنون في قرية أو قرى!.
{فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
أي لم يكن في هذه القرية إلا بيت واحد استحق السلامة والنجاة من هذا البلاء الذي أتى على القرية وأهلها.. وهو بيت لوط ومن آمن من أهله.
{وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ}.
أي أن هذه القرية قد ذهبت بمن فيها، وبقي من هذه القرية آثار واضحة من الدّمار والهلاك الذي حلّى بها وبساكنيها.. يراه من كان يمر عليها بعد هذا العذاب الذي نزل بها، ثم بقي لها بعد ذلك ذكر سيئ في صحف التاريخ، وفى الكتب السماوية التي نزلت على رسل اللّه بعد هذا.
وفى هذا وذاك آية، الذين يؤمنون باللّه، ويخافون العذاب الأليم يوم القيامة، فيرون في تلك الآية سلطان اللّه وقدرته، وأخذه الأليم الشديد لمن يخرجون عن صراطه المستقيم.

.تفسير الآيات (38- 46):

{وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَتَرَكْنا فِيها آيَةً} أي وتركنا كذلك آية فيما كان بين موسى وفرعون.
والسلطان المبين الذي أرسل به موسى إلى فرعون، هو ما كان معه من آيات معجزة متحدية، كالعصا، واليد.
وقوله تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي أعرض عن النظر في هذه الآيات، معتزا بركنه، أي قوته وسلطانه.. والركن: ما يركن إليه الإنسان في الملمات، ويحمى ظهره به، كما يقول تعالى على لسان لوط، مخاطبا قومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [80: هود].. والجارّ والمجرور حال من الفاعل المستتر وهو فرعون.
وقوله تعالى: {وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} حال أخرى من فرعون ساعة توليه وإعراضه عن دعوة الحق، التي يدعوه إليها موسى، أي تولى معتزّا بركنه وقوته، قائلا هذا القول الآثم في موسى: {ساحر أو مجنون}.
وساحر خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي موسى.. ولم يذكر موسى ظاهرا أو مضمرا، حماية له من أن يقال هذا القول المنكر فيه.
وقوله: {ساحر أو مجنون} إشارة إلى أن هذا القول لم يكن من فرعون عن علم، وإنما هو رمية من رميات طائشة، يرمى بها من غير حساب أو تقدير.
فهو متردد في الحكم الذي يحكم به على موسى.. ولكن لابد من أن يصدر حكما، وبقول قولا.
وهذا شأن أهل الضلال، حين يقهرهم الحق، وتسقط من بين أيديهم الحجة على دفعه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في هذه السورة عن المشركين الذين قالوا مثل هذا القول في رسول اللّه محمد صلوات اللّه وسلامه عليه: {كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} (الآيتان: 52- 53).
{فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ}.
المراد بالأخذ هنا، الأخذ الذي يرد بصاحبه موارد الهلاك، وأخذ اللّه سبحانه لا يكون إلا حيث تقع نقمه، وينزل بلاؤه.. مثل قوله تعالى لفرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى} [25: النازعات].
وقوله تعالى: {فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ}.
أي ألقيناهم في اليم، أي البحر، ونبذ الشيء، طرحه وإلقاؤه دون مبالاة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ}.
جملة حالية، تصف الحال التي كان عليها فرعون، حين نبذ هو وجنوده في اليم.
والمليم. المستحق للّوم، وفعله: ألام: أي أوقع نفسه فيما يلام عليه.
وفى عود الضمير على فرعون وحده في قوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ}.
إشارة إلى أنه هو وحده الذي يحمل وزره ووزر قومه، إذ كان هو داعيتهم إلى هذا الضلال.. أما قومه فإن كلا منهم يحمل وزر نفسه، لمتابعته الداعية الذي دعاه إلى هذا الضلال.
{وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}.
معطوف على قوله تعالى: {وَفِي مُوسى} فهو عطف حدث على حدث.
والريح العقيم، هي الريح التي فسدت طبيعتها، فلا تلد خيرا أبدا، بل تلد الهلاك والدمار لمن تشتمل عليه، وتلفّه في كيانها، والأصل في الريح أنها تجيء محمّلة بالخير، بل والحياة للأحياء كلها، إذ منها يتنفّس كل حى أنفاس الحياة.. ولكن هذه النعمة قد صارت نقمة على القوم الضالين.
وقوله تعالى: {ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} هو بيان لما تترك هذه الريح العقيم من آثار ومخلّفات وراءها.. إنها لا تترك شيئا تمرّ عليه إلّا دمّرته، وحطمته، وأتت على كل صالحة فيه، فيتحول إلى كيان بال متفتت.
والرميم: العظام البالية، والرّمة: الحبل البالي، والرّمّ: إصلاح الشيء البالي.
قوله تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ}.
هو معطوف كذلك على قوله تعالى: {وَفِي عادٍ} عطف حدث على حدث، وقصّة على قصة.
أي وفى ثمود آية.. بما أخذهم اللّه به من نكال وعذاب.
فلقد كان القوم في نعمة ظاهرة، وقوة متمكنة، إذ بوّأهم اللّه الأرض، وملّكهم القدرة على إثارتها وعمرانها، فاتخذوا القصور في سهولها، ونحتوا البيوت في جبالها، كما يقول سبحانه على لسان نبيهم صالح إذ يقول لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً} [74: الأعراف].
وفى قوله تعالى: {إذ قيل لهم تمتعوا} إشارة إلى هذه النّعم التي كان القوم فيها، وأنها تتيح لهم التمتع بحياة طيبة فيها، لو أنهم رعوها حق رعايتها، ولم يلبسوا بها ثوب الغرور والجهالة، ولم يتخذوا منها سلاحا يحاربون به اللّه، ويحادّون رسوله.
ولم يقل لهم أحد تمتعوا، ولكنه لسان الحال إذ ما سيقت إليهم هذه النعم إلا ليعيشوا فيها، وليتمتعوا بها إلى أن تحين آجالهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} بيان للغاية التي يكون تمتع القوم فيها بهذه النعم، وأنها لا تنقطع عنهم حتى يحين أجلهم المقدور لهم عند اللّه.
وقوله تعالى: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} العتوّ: التمرد والاستعلاء.
وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} هو تعقيب على عتوّهم، وخروجهم عن أمر اللّه.. وأن هذا العذاب الذي أخذوا به، إنما هو لعتوّهم، وتمردهم على اللّه، وكفرهم به.
وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ} أي حين نزل بهم العذاب، بهظهم، وكظم أنفاسهم.، ولم يجدوا معه قدرة على أن يقوموا لدفعه، والهروب من وجهه.
وقوله تعالى: {وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي وما كانوا منتصرين على هذا العذاب لو أنهم قاموا له، وتلقّوه بكل ما معهم من حول وحيلة.
قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}.
هو معطوف على المفعول به في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ}.
أي وكذلك أخذ العذاب قوم نوح من قبل هؤلاء الذين أخذهم اللّه سبحانه بعذابه.. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} أي خارجين عن أمر ربهم، متجاوزين حدوده.